الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
وقوله: {إلى الأرض} يحتمل أن يرد إلى شهواتنا ولذاتها وما فيها من الملاذ، قاله السدي وغيره، ويحتمل أن يرد بها العبارة عن الأسفل والأخس كما يقال فلان في الحضيض، ويتأيد ذلك من جهة المعنى المعقول وذلك أن الأرض وما ارتكز فيها هي الدنيا وكل ما عليها فان، من أخلد إليه فقد حرم حظ الآخرة الباقية، وقوله: {فمثله كمثل الكلب} قال السدي وغيره: إن هذا الرجل عوقب في الدنيا بأنه يلهث كما يلهث الكلب فشبه به صورة وهيئة، وقال الجمهور إنما شبه به في أنه كان ضالاً قبل أن يؤتى الآيات ثم أوتيها فكان أيضاً ضالاً لم تنفعه، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه وتركه دون حمل عليه، وتحرير المعنى فالشيء الذي تتصوره النفوس من حاله هو كالذي تتصور من حال الكلب، وبهذا التقدير يحسن دخول الكاف على مثل، واللهث تنفس بسرعة وتحرك أعضاء الفم معه وامتداد اللسان، وأكثر ما يعتري ذلك مع الحر والتعب، وهو في الفرس ضبح، وخلقة الكلب أنه يلهث على كل حال، وذكر الطبري أن معنى {إن تحمل عليه} أي تطرده وحكاه عن مجاهد وابن عباس.قال القاضي أبو محمد: وذلك داخل ي جملة المشقة التي ذكرنا، وقوله: {ذلك مثل القوم} أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالتهم ولم ينتفعوا بذلك، فمثلهم كمثل الكلب، وقوله: {فاقصص القصص} أي اسرد ما يعلمون أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا أهل الكتب الماضية ولست منهم {لعلهم يتفكرون} في ذلك فيؤمنون.وقوله: {ساء مثلاً} قال الزجاج: التقدير ساء مثلاً مثل القوم، لأن الذي بعد بئس ونعم إنما يتفسر من نوعه، كما تقول بئس رجلاَ زيد، ولما انحذف مثل أقيم القوم مقامه، والرفع في ذلك بالابتداء والخبر فيما تقدم، وقرأ الجحدري {ساء مثلُ القوم}، ورفع مثل على هذه القراءة ب {ساء}، ولا تجري {ساء} مجرى بئس إلا إذا كان ما بعدها منصوباً، قال أبو عمرو الداني: قرأ الجحدري {مِثلُ} بكسر الميم ورفع اللام، وقرأ الأعمش {مَثَلُ} بفتح الميم والثاء ورفع اللام.قال القاضي أبو محمد: وهذا خلاف ما ذكر أبو حاتم فإنه قال: قرأ الجحدري والأعمش {ساء مثلُ} بالرفع.وختمت هذه الآيات التي تضمنت ضلال أقوام والقول فيه بأن ذلك كله من عند الله، الهداية منه وبخلقه واختراعه وكذلك الإضلال، وفي الآية تعجب من حال المذكورين، ومن أضل فقد حتم عليه بالخسران، والثواب والعقاب متعلق بكسب ابن آدم.وقوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس} خبر من الله تعالى أنه خلق لسكنى جهنم والاحتراق فيها كثيراً، وفي ضمنه وعيد للكفار، وذرأ معناه خلق وأوجد مع بث ونشر، وقالت فرقة اللام في قوله: {لجهنم} هي لام العاقبة أي ليكون أمرهم ومئالهم لجهنم.قال القاضي أبو محمد: وهذا ليس بصحيح ولام العاقبة إنما يتصور إذا كان فعل الفاعل لم يقصد به ما يصير الأمر إليه، وهذه اللام مثل التي في قوله الشاعر: وأما هنا فالفعل قصد به ما يصير الأمر إليه من سكناهم جهنم، وحكى الطبري عن سعيد بن جبير أنه قال أولاد الزنا مما ذرأ الله لجهنم ثم أسند فيه حديثاً من طريق عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: {كثيراً} وإن كان ليس بنص في أن الكفار أكثر من المؤمنين فهو ناظر إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم «قال الله لآدم أخرج بعث النار فأخرج من كل ألف تسعة وتسعين وتسعمائة».
ومنه قول الآخر: [الوافر] ومنه قول الآخر في وصاة من يدخل إلى دار ملك: [مخلع البسيط] فكأن هؤلاء القوم لما لم ينفعهم النظر بالقلب ولا بالعين ولا ما سمعوه من الآيات والمواعظ استوجبوا الوصف بأنهم {لا يفقهون} و{لا يبصرون} و{لا يسمعون} وفسر مجاهد هذا بأن قال: لهم قلوب لا يفقهون بها شيئاً من أمر الآخرة وأعين لا يبصرون بها الهدى وآذان لا يسمعون بها الحق، و{أولئك} إشارة إلى من تقدم ذكره من الكفرة وشبههم بالأنعام في أن الأنعام لا تفقه قلوبهم الأشياء ولا تعقل المقاييس، وكذلك ما تبصره لا يتحصل لها كما يجب، فكذلك هؤلاء ما يبصرونه ويسمعونه لا يتحصل لهم منه علم على ما هو به حين أبصر وسمع، ثم حكم عليهم بأنهم {أضل}، لأن الأنعام تلك هي بنيتها وخلقتها لا تقصر في شيء ولا لها سبيل إلى غير ذلك، وهؤلاء معدون للفهم وقد خلقت لهم قوى يصرفونها وأعطوا طرقاً في النظر فهم بغفلتهم وإعراضهم يلحقون أنفسهم بالأنعام فهم أضل على هذا، ثم بين بقوله: {أولئك هم الغافلون} الطريق الذي به صاروا أضل من الأنعام وهو الغفلة والتقصير.وقوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى} الآيات، السبب في هذه الآية على ما روي، أن أبا جهل سمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فيذكر الله في قراءته ومرة يقرأ فيذكر الرحمن ونحو هذا فقال: محمد يزعم أن الإله واحد وهو إنما يعبد لآهلة كثيرة فنزلت هذه و{الأسماء} هنا بمعنى التسميات إجماعاً من المتأولين لا يمكن غيره، و{الحسنى}: مصدر وصف به، ويجوز أن تقدر {الحسنى} فعلى مؤنثه أحسن، فأفرد وصف جميع ما لا يعقل كما قال: {مآرب أخرى} [طه: 18] وكما قال: {يا جبال أوبي معه} [سبأ: 10] وهذا كثير، وحسن الأسماء إنام يتوجه بتحسين الشرع لإطلاقها، والنص عليها، وانضاف إلى ذلك أيضاً أنها إنما تضمنت معاني حساناً شريفة.واختلف الناس في الاسم الذي يقتضي مدحاً خالصاً ولا يتعلق به شبهة ولا اشتراك، إلا أنه لم ير منصوصاً هل يطلق ويسمى الله به؟ فنص ابن الباقلاني على جواز ذلك ونص أبو الحسن الأشعري على منع ذلك، والفقهاء والجمهور على المنع، وهو الصواب أن لا يسمى الله تعالى إلا باسم قد أطلقته الشريعة ووقفت عليه أيضاً، فإن هذه الشريطة التي في جواز إطلاقه من أن تكون مدحاً خالصاً لا شبهة فيه ولا اشتراك أمر لا يحسنه إلا الأقل من أهل العلوم فإذا أبيح ذلك تسور عليه من يظن بنفسه الإحسان وهو لا يحسن فأدخل في أسماء الله ما لا يجوز إجماعاً، واختلف أيضاً في الأفعال التي في القرآن مثل قوله: {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15] {ومكر الله} [آل عمران: 54] ونحو ذلك هل يطلق مها اسم الفاعل؟ فقالت فرقة: لا يطلق ذلك بوجه، وجوزت فرقة أن يقال ذلك مقيداً بسببه فيقال: الله مستهزئ بالكافرين وماكر بالذين يمكرون بالدين، وأما إطلاق ذلك دون تقييد فممنوع إجماعاً، والقول الأول أقوى ولا ضرورة تدفع إلى القول الثاني لأن صيغة الفعل الواردة في كتاب الله تغني ومن أسماء الله تعالى ما ورد في القرآن ومنها ما ورد في الحديث وتواتر، وهذا هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه، وقد ورد في الترمذي حديث عن أبي هريرة ونص فيه تسعة وتسعين اسماً، وفي بعضها شذوذ وذلك الحديث ليس بالمتواتر وإنما المتواتر منه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة»، ومعنى أحصاها عدها وحفظها وتضمن ذلك الإيمان بها والتعظيم لها والرغبة فيها والعبرة في معانيها، وهذا حديث البخاري، والمتحصل منه أن لله تعالى هذه الأسماء مباحاً إطلاقها وورد في بعض دعاء النبي صلى الله عليه وسلم «يا حنان يا منان» ولم يقع هذا الاسمان في تسمية الترمذي.وقوله: {فادعوه بها} إباحة بإطلاقها، وقوله تعالى: {وذروا الذين} قال ابن زيد: معناه اتركوهم ولا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم، فالآية على هذا منسوخة بالقتال، وقيل معناه الوعيد كقوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيداً} [المدثر: 11] وقوله: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا} [الحجر: 3] ويقال ألحد ولحد بمعنى جار ومال وانحرف، وألحد أشهر، ومنه قول الشاعر: [الرجز] قال أبو علي: ولا يكاد يسمع لأحد وفي القرآن {ومن يرد فيه بإلحاد} [الحج: 25] ومنه لحد القبر المائل إلى أحد شقيه، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر {يُلحِدون} بضم الياء وكسر الحاء وكذلك في النحل والسجدة، وقرأ حمزة الأحرف الثلاثة {يَلحَدون} بفتح الياء والحاء وكذلك ابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش، ومعنى الإلحاد في أسماء الله عز وجل أن يسموا اللات نظيراً إلى اسم الله تعالى قاله ابن عباس: والعزى نظيراً إلى العزيز، قاله مجاهد، ويسمون الله رباً ويسمون أوثانهم أرباباً ونحو هذا، وقوله: {سيجزون ما كانوا يعملون} وعيد محض بعذاب الآخرة، وذهب الكسائي إلى الفرق بين ألحد ولحد وزعم أن ألحد بمعنى مال وانحرف ولحد بمعنى ركن وانضوى، قال الطبري: وكان الكسائي يقرأ جميع ما في القرآن بضم الياء وكسر الحاء إلا التي في النحل فإنه كان يقرؤها بفتح الياء والحاء ويزعم أنها بمعنى الركون وكذلك ذكر عنه أبوعلي.
|